دخول المغيرة بن شعبة على البطليوس حاكم البهنسا

لقد دخل المغيرة بن شعبة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على البطليوس وهو جالس على سريره ولما نظر المسلمون إلى ذلك عظموا الله تعالى وكبروه فارتج السرادق وتغيرت ألوان القوم وصاح بهم الحجاب‏:‏ قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم‏.‏ قال المغيرة‏:‏ لا ينبغي السجود إلا للملك المعبود ولعمري كانت هذه تحيتنا قبل فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فلا يسجد بعضنا لبعض‏.‏ قال‏:‏ فسكتوا‏.‏ قال فأشار لهم البطليوس بالجلوس وقال لهم‏:‏ أيكم المتكلم عن أصحابه‏.‏ فأشاروا إلى المغيرة رضي الله عنه والصحابة جلوس وأيديهم على مقابض سيوفهم فالتفت البطليوس إلى المغيرة وقال له‏:‏ ما اسمك‏.‏ فقال‏:‏ المغيرة
فقال‏:‏ يا مغيرة إني أكره أن أبدأك بالكلام
فقال المغيرة‏:‏‏ ‏الحمد لله الذي هدانا للإسلام وخصنا من بين الأمم بمبعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهدانا به من الضلالة وأنقذنا به من الجهالة وهدانا إلى الصراط المستقيم فنحن خير أمة أخرجت للناس نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء وجعل أميرنا الذي هو متولي علينا كأحدنا لو زعم أن ملك وجار عزلناه عنا فلسنا نرى له فضلًا علينا إلا بالتقوى وقد جعلنا الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونقر بالذنب ونستغفر منه ونعبد الله وحده لا شريك له ولو أذنب الرجل منا ذنوبًا تبلع مثل الجبال فتاب قبلت توبته وإن مات مسلمًا فله الجنة قال‏:‏ فتغير لون البطليوس‏.‏ ثم سكت قليلًا
وقال‏:‏ لقد كانت جماعة منكم قبل اليوم يأتون إلى بلادنا فيمتارون البر والشعير وغيره ونحسن إليهم وكانوا يشكرونا على ذلك وأنتم جئتمونا بخلاف ذلك تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون المال وتنهبون المدائن والحصون والقلاع وتريدون أن تخرجونا من بلادنا وديارنا وأنتم لم تكن أمة من الأمم أضعف حالًا منكم لأنكم أهل الشعير والدخن وجئتم بعد ذلك تطمعون في بلادنا وأموالنا وحولنا جنود كثيرة وشوكتنا شديدة وعصابتنا عظيمة ومدينتنا حصينة والذي جرأكم علينا أنكم ملكتم الشام والعراق واليمن والحجاز وارتحلتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وخربتم المدائن والقلاع ولبستم ثيابًا فاخرة وتعرضتم لبنات الملوك والبطارقة وجعلتموهن خدمًا لكم وأكلتم طعامًا طيبًا ما كنتم تعرفونه وملأتم أيديكم بالذهب والفضة والمتاع الفاخر واللآلئ والجواهر ومعكم متاعنا وأموالنا التي من قومنا وأهل ديننا ونحن نترك لكم ذلك جميعه ولا ننازعكم عليه ولا نؤاخذكم بما تقدم من فعلكم من قتل رجالنا ونهب أموالنا والآن فارحلوا عنا واخرجوا من بلادنا‏.‏ فإن فعلتم فتحنا خزائن الأموال وأمرنا لكل رجل منكم بمائة دينار وثوب حرير وعمامة مطرزة بالذهب ولأميركم هذا ألف دينار وعشرة عمائم وعشرة ثياب ولكل أمير منكم كذلك وللخليفة عليكم عشرة آلاف دينار ومائة ثوب حرير ومائة عمامة بعد أن نستوثق منكم بالأيمان أنكم لا تعودون إلى الإغارة على بلادنا هذا كله والمغيرة ساكت فلما فرغ البطليوس من كلامه قال له المغيرة‏:‏ قد سمعنا كلامك فاسمع كلامنا‏.‏ ثم
قال‏:‏ الحمد لله الواحد القهار الفرد ‏الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏ ‏‏
فقال له البطليوس‏:‏ نعم ما قلت يا بدوي
فقال المغيرة‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى
فقال له البطليوس لعنه الله‏:‏ لا أدري أن محمدًا رسول الله ولعله كما يقال حبيب الرجل دينه ثم التفت إلى المغيرة
وقال‏:‏ يا عربي ما أفضل الساعات‏.‏
فقال‏:‏ ساعة لا يعصى الله فيها
قال‏:‏ صدقت لقد بان لي رجحان عقلك فهل في قومك من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك‏.‏
قال‏:‏ نعم في قومنا وعسكرنا أكثر من ألف رجل لا يستغنى عن رأيهم ومشورتهم وخلفنا أمثال ذلك وهم قادمون إلينا عن قريب‏.‏
فقال البطليوس‏:‏ ما كنا نظن ذلك منكم وإنما بلغنا عنكم أنكم جماعة جهال لا عقول لكم
فقال المغيرة‏:‏ كنا كذلك حتى بعث الله فينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فهدانا وأرشدنا‏.‏
فقال البطليوس‏:‏ لقد أعجبني كلامك فهل لك في صحبتي‏.‏
فقال المغيرة‏:‏ يسرني ذلك إذا فعلت ما أقول لك‏.‏
قال‏:‏ ما هو قال‏:‏ تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله‏.‏
قال البطليوس‏:‏ لا سبيل إلى ذلك ولكن أردت أن أصلح الأمر بيني وبينكم‏.‏
قال المغيرة رضي الله عنه‏:‏ الأمر إلى الله وأما قولك لنا إنا أهل فقر وبؤس وضر فقد كنا كذلك وكنا أهل جاهلية لا يملك أحدنا غير فرسه وقوسه وإبله وكنا لا نعظم إلا الأشهر الحرم حتى بعث الله إلينا نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم نعرف أصله ونسبه صادقًا أمينًا نقيًا إمامًا رسولًا أظهر الإسلام وكسر الأصنام وختم به النبيين وعرفنا عبادة رب العالمين فنحن نعبد الله ولا نعبد غيره ولا نتخذ من دونه وليًا ولا نصيرًا ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا أن نجاهد من كفر بالله وأتخذ مع الله شريكًا جل ربنا وعلا وهو واحد لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان من إخواننا وله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى الإسلام فالجزية يؤديها عن يد وهو صاغر فمن أداها حقن الله دمه وماله ومن أبى الإسلام والجزية فالسيف حكم بيننا وبينه والله خير الحاكمين وهي على كل محتلم في العام دينار وليس على من لم يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته
فقال البطليوس‏:‏ لقد فهمت قولك عن الإسلام فما قولك عن الجزية عن يد وهو صاغر فإني لا أدري ما الصغار عندكم فقال المغيرة رضي الله عنه‏:‏ وأنت قائم والسيف على رأسك‏.‏ فلما سمع البطريق كلام المغيرة غضب غضبًا شديدًا ووثب قائمًا ووثب المغيرة من موضعه وانتضى سيفه من غمده وكذلك فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهم يقولون‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ قال عبد الله بن رافع‏ كنا مع المغيرة وجذبنا السيوف ووثبنا على القوم وأخذتنا غيرة الإسلام وما في أعيننا من جيوش البطليوس شيء وعلمنا أن المحشر من ذلك الموضع فلما رأى البطليوس منا ذلك وتبين له الموت من شفار سيوفنا نادى‏:‏ مهلًا يا مغيرة لا تعجل فنهلك وأنا أعلم أنك رسول والرسول لا يقتل وإنما تكلمت بما تكلمت لأختبركم وأنظر ما عندك والآن لا نؤاخذكم فاغمدوا سيوفكم‏.‏ قال‏:‏ فأغمدنا سيوفنا وتقدم المغيرة حتى صار في مكان البطليوس وزحزحه إلى آخر السرير وكان المغيرة رجلًا جسيمًا فاتكل عليه حتى كاد أن يخلع فخذه من موضعه‏.‏
قال‏:‏ ثم التفت إلى المغيرة
وقال‏:‏ ما قولكم في المسيح ابن مريم قال المغيرة‏:‏ عبد الله ورسوله‏.‏
قال‏:‏ فمن أي شيء خلق‏.‏
قال‏:‏ خلقه الله من تراب ثم قال له كن فكان ودل على ذلك القرآن العظيم‏.‏ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 9‏]‏‏.‏
قال‏:‏ فما الدليل على أن الله واحد
فقال المغيرة‏:‏قال الله في القرآن العظيم على لسان نبيه‏صلى الله عليه وسلم‏{‏قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ ا - 4‏]‏‏.‏
فقال له البطليوس‏:‏ ما رأيت مثل حذقك وجوابك يا أعور وكان المغيرة رضي الله عنه أصيب في إحدى عينيه يوم اليرموك‏.‏
فقال له المغيرة‏:‏ إن ذلك لا يعيبني ولقد أصيبت عيني في الجهاد في سبيل الله من كافر مثلك وأخذت بثأري من الذي فعل بي ذلك فقتلته‏.
فقال البطليوس‏:‏ ما أحذق جوابك فهل في قومك مثلك‏.‏ قال‏:‏ قد قلت لك فينا أهل العلم والرأي ومن لا أساوي في علمهم شيئًا وأنا رجل بدوي فلو رأيت علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المختار مقاتل الكفار ومبيد الفجار والليث الكرار البطل المغوار‏.‏ قال‏:‏ أهو معكم في هذا الجيش فقد سمعت بشجاعته وبراعته وأريد أن أنظر إليه‏.‏ فقال له المغيرة‏:‏ قاتلك الله إن الإمام عليًا كرم الله وجهه أعظم قدرًا من أن يسير إلى مثلك‏.‏ قال‏:‏ فهل أحد غيره‏.‏ قال‏:‏ نعم مثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو خليفتنا وعثمان بن عفان وعبد الرحمن وسعيد وسعد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأمراء متفرقين في الحجاز واليمن والشام والعراق ومصر كل أمير يقوم بألف مثلك في الشجاعة والبراعة وغير ذلك وأما سيف الله الأمير خالد بن الوليد أمير هذا الجيش ومعه عصابة من الأمراء فكأنك به وقد أقبل علينا برجال ساعات شداد وأمراء أمجاد‏.‏ فقال له عند ذلك‏:‏ إني أريد أن أصلح الأمر بيني وبينكم وأريد قبل الحرب أن أنظر إلى جماعة ممن ذكرت‏.‏ قال الراوي‏:‏ وكان عدو الله أراد أن يغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم المغيرة منه ذلك‏.‏ فقال‏:‏ غداة غد آتيك منهم برجال تنظر إليهم‏.‏ قال ففرح عدو الله وأضمر المكر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الله كيده في نحره‏.‏ قال الراوي‏:‏ ثم وثب المغيرة وأصحابه وخرجوا من عند البطليوس وما صدقوا بالنجاة وركبوا خيولهم وأمر البطليوس حجابه ونوابه أن يسيروا معهم إلى قريب من عسكرهم‏.‏ قال ووصل المغيرة وأصحابه إلى الأمير عياض بن غانم الأشعري وحدثه بما جرى له مع البطليوس‏.‏ فقال عياض‏:‏ هذا رجل حكيم إلا أن الشيطان قد غلب على عقله‏.‏ قال الراوي‏:‏ ولم يناموا تلك الليلة إلا وقد أخذوا أهبتهم للحرب واستعدوا للقتال

ليست هناك أي مشاركات.
ليست هناك أي مشاركات.